روعة امرأة
أخذ المطر يتساقط بشدة وقرص الشمس اختفى خلف الأدغال المحيطة بالقرية.ريح شديدة بدأت تنذر بقدوم عاصفة كبيرة، الليل خيم على مكان بارد والفوانيس الصغيرة المزدانة على نوافذ عتيقة بدأت بشيء من ضوء خافت في ردهات منازل كساها الخوف و صاغتها العزلة .
عادت الأم إلى كوخها الصغير أشعلت سراج مات الضوء فيه , تكورت قرب المدفأة شعرت ببرد عظيم غطت جسدها ببطانية رخيصة أمست تنتظر ولدها ليعود إليها إنه موعد عودته من العمل لكنه تأخر وقفت وفي يدها ممسكة أعواد الحطب لتضعهم بتصنع في المدفأة , بانتظار ابنها الغالي بدا الملل يتسلل إلى قلبها ما إن تحول إلى خوف متقطع يراود قلبها الحنون في نفسها غمرة سؤال :لماذا تأخر ؟ أين أنت ياولدي هل أخرتك الأمطار عني ؟ أم أنك جالس مع أصدقاء لك غير مبال بقلب يكاد ينفطر شوقا على وصولك . أفكار رتيبة جمل مشاعر وأحاسيس ترانيم أمل لكي يعود.
سمعت صوتا باردا في الخارج وقفت نزعت عنها بطانيتها الرقيقة وانتصبت كصبية نحو الباب فتحت أحست به وكأنه بقربها أو هو قادم يناديها :أمي أمي لقد عدت فاتحا يديه لتتلقفه بين ذراعيها الحانيتين ويبكيان معا بيد أن الرياح العاتية المزمجرة في الخارج خيبت آمالها وأعادتها مرة أخرى إلى ركنها البعيد قرب المدفأة وعلى كتفيها تلك البطانية الذابلة كامرأة هجرها الحبيب .
عادت الأفكار المتضاربة تنهش في قلبها مدغدغة مشاعر أم تبكي ولدها وكيف لا وقد اعتادت عليه منذ صغره بعد أن مات والده وتركهما معا فأعان كل منهما الأخر حتى بات روحا واحدة في جسدين , والأم الحزينة تتألم لتأخر ولدها اشتدت الرياح في الخارج وغزارة الأمطار باتت عظيمة تأكل في قلب كاد أن يموت الحب الفرح الحزن الدمع الأمل الشوق امتزجا في بوتقة واحدة جمعتهم أم واحدة لبوه حزينة تكاثرت عليها مشاكل زمن في حياة من جوع وبرد وعطش وحب وحنان ومزجتها الطبيعة وصيّرتها أم .
وقع خطى في الخارج ندهت صرخت لقد عاد هرعت إلى النافذة وقفت على كرسي خشبي صغير أصوات الرياح كأجراس صاخبة في أذنيها وعويل الرياح ككابوس مطبق على صدرها ونباح الكلاب وحفيف الأشجار وكله معا امتزج ليشكل ضوضاء كفحيح الأفاعي في الخارج لم يجرحه إلا ظلام الليل واشتداد هبوب الرياح وضعت يدها على رأسها لتبتعد الأصوات والأفكار عنها تهز في حركتها تنكسر رجل الكرسي من تحتها تقع على الأرض ارتطم رأسها بالأرض الصلبة, تبكي تبكي وتبكي لقد صار سرابا حينها أيقنت بأن ولدها قد مات وقتئذ صدقت بأنها هي التي دفنته بيديها هاتين رفعت يديها للسماء وصاحت يارب ما أقوى ساعديّ هاتين اللواتي ردمن التراب فوق حبيبي الغالي. وعادت إلى غيبوبتها الحارة الرياح تشتد على جدران الكوخ وتعصف به بشدة وسراج الليل اندثر ...وانطفئ رويدا رويداً والمدفأة الحزينة استسلمت للرياح وانكفأت والنافذة فاتحة ذراعيها تسمح بدخول حبات المطر تداعب وجه وجسد الأم الملقاة على الأرض والشمس بدأت بالسطوع من جديد .
محمد إسماعيل رمضان
الرياض في 24/7/2010 م.
عدل سابقا من قبل محمد إسماعيل رمضان في الأحد يوليو 25, 2010 3:27 am عدل 1 مرات